
منذ التربية الأولى يتعلم الطفل أن يصدق أو يكذب، أن يعبر عن نفسه كما هي أو أن يزيف حقيقته أمام الآخرين وأمام نفسه. منذ التربية الأولى يتعلم الطفل أن المطلوب منه هو أن يكون شخصا مستقلا صادقا أو أن يكون صورة تتوفر فيها الشروط المثالية التي يطلبها المجتمع. منذ التربية الأولى يتعلم الطفل أن يكون نفسه أو أن يكون شيئا آخر، شيء جاهز للعرض حسب الطلب. منذ الطفولة الأولى وعلى مسرح الحياة يتعلم الطفل أن يكون هو مخرج هذه التجربة المسماة حياة أو أن يكون مجرد ممثل ينفذ كلام المخرج، يبقى ممثلا يؤدي الدور طول حياته لينتهي دون أن يعرف أحد، ولا حتى هو نفسه أن داخل هذا الممثل ذات أخرى انتهت التجربة دون أن تظهر. دون توفر الحرية فإننا لا نستطيع أن نعرف بعضنا البعض، فالأقنعة تحجب حقائقنا. إذا لم أكن قادرا على أن أقول لك بحرية من أنا, أفكاري، مواقفي، رغباتي دون خوف فإنك لن تعرفني. سأستمر في تنفيذ الدور أمامك وأنت كذلك دون أن نتجاوز هذه الحدود وفي النهاية لا نعرف بعضنا البعض. يكثر عندنا أن يتفاجأ الأهل بتصرف معيّن لابنهم أو بنتهم بعد أن مرّ على وجوده معهم سنين طويلة. يتفاجؤون بأنه فنان أو بأنه مبدع أو بأنه حزين جدا ... يتفاجؤون لأنه لم يكن حرا معهم، لم يجد الحرية التي تسمح له بأن يعلن عن نفسه كما هي بدون خوف. ما يحصل هو أن الأفراد يحاولون أن يتمثلوا الصورة النمطية السائدة في المجتمع ليسلموا من العنف الذي سيتعرضون له لو أرادوا التعبير عن الاستقلال والتفرد. والمشكلة الكبرى أننا مع تعود عملية التزييف هذه نعجز عن الخروج عنها بسهولة حتى ولو توفرت لنا أجواء الحرية باعتبار أننا نحتاج إلى إعادة تكيّف وإلى مواجهة الحواجز التي أصبحت جزءا من ذواتنا. نلاحظ في أنفسنا ذلك التوتر حين نبتعد عن العين الاجتماعية الرقيبة ونحظى بأجواء الحرية، نشعر بالغربة وبالتوتر والقلق في الممارسات..وحده الوقت الطويل يعيد لنا طبيعتنا من جديد. طبيعتنا الحرة ..أي أن نظهر ما نبطن ..ببساطة. إذا كان الأفراد يمرضون فإن المجتمعات بكاملها تمرض أيضا والعلاقة بين الأمرين متبادلة، فمرض الأفراد ينتج مرض المجتمع والمجتمع المريض ينتج باستمرار أفرادا يحملون نفس المرض. ومشكلة مرض المجتمع أنه يصبح هو الوضع الطبيعي ويكف الغالبية عن الوعي بأنه مرض، بل إن الأمراض قد تصبح مع الوقت تعبيرا عن الهوية والذات. بعض المجتمعات مثلا تعتز بعصبيتها وتطرفها وتعتبر ذلك لب هويتها، مع أن هذه الهوية بالذات هي المرض القاتل. وبشكل عام يمكن القول إن المجتمعات التي تنخفض فيها مستويات الحرية فإنها باستمرار تكون بيئة مناسبة لكل الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يأتي في مقدمتها اختفاء الناس وعدم قدرتهم على رؤية بعضهم البعض. فهل من الممكن ان يأتى اليوم الذى نجد فية الأفراد قبل القيادات يتحدثون بحقيقة تحتويها الحرية؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق